Saturday 21 April 2012

الاستقلال- ولد ومات بولادة وموت القوي الحديثة فكيف الإحياء


عبد العزيز حسين الصاوي
alsawi99@hotmail.com
 ( نسخة محّدثة لملخص حديث  في ندوة مجموعة ” أجنده مفتوحه ” بمدينة لندن العام الماضي )

في جدل الحياة والموت ، الهزيمة والانتصار يبدو المشهد السوداني في الذكري ال65 للاستقلال اشبه مايكون بالمأتم الكبير عندما نتأمله من منظور حدث الانفصال الجنوبي والحرب المتقطعة في دار فور وجنوب كردفان وجنوب النيل الازرق، وشراراتها في مواقع أخري من بينها حتي الوسط نفسه. فالبيان الصادر يوم 10 يناير 2011 بأسم ” الجبهه الثوريه لابناء الاقليم الاوسط “  متحملا مسئولية إحراق عدة افدنة من مزارع قصب السكر لم يكن مجرد تصرفات ” اولاد متنطعين ” كما قال والي سنار وانما مستصغر شرر كما يقول مخزوني الالكتروني ففيه تقرير صحفي مسهب بتاريخ 19 12 2006  حول تأسيس ” كيان الوسط ” أٌعلن عنه في تجمع كبير بمدينة ود مدني، ترددت فيه بوضوح أفكار تيار التهميش وتلميحات بأستخدام العنف، في تكرار لما حدث في دار فور. بالاضافه لشرارات حروب الكل ضد الكل هذه هناك، مع المجاعات العلنيه، المجاعة السرية او الصامته ممثلة في انخفاض الدخل الفردي الي اقل من ربع احتياجات الصرف اليومي. كل هذا يأكل من عافية الانسان الجسديه والنفسيه – والاخطر من ذلك – من لحمة الترابط بين الفرد وقيمه الاخلاقية ثم لحمة العلاقات الاسرية والاجتماعيه، حتي وهي مستترة ومستورة بمغالطات اهل الحكم وبقايا كرامة الانسان السوداني وعطايا الامم المتحده ودول الاغتراب التي لجأ الناس السودانيون اليها بالملايين عاملين وعاطلين.

  كان السودان قد دخل القرن الماضي  وارادته الوطنية مقيدة بالاحتلال البريطاني الذي كانت قدراته التكنولوجية ( خط السكه حديد ومدفع المكسيم ) قد الحقت به هزيمة – مجزرة في معركة كرري عام 1898 . وانتهي  القرن الماضي وارادة السودان الوطنية مقيدة ويكاد يكون تحت الوصايه : بالاضافة لتدويل قضايا الجنوب ودارفور وحتي الشرق ( الدور الارتري ) هناك بقاء مايتجاوز ال 20 الف جندي وفق عدة قرارات من الامم المتحده حتي يوليو الماضي ( تنتشر الان قوات اثيوبية في أبيي بقرار من مجلس الامن ) تحت الفصل السابع من ميثاقها وماأدراك ماالفصل السابع الذي يعطي مجلس الامن الحق في فرض حصارعلي الدولة المعنيه وتصعيد العقوبات الي التدخل العسكري. فتحت عنوان ” مايتخذ من اعمال في حالات تهديد السلم والاخلال به ووقوع العدوان ” ينص هذا الفصل في مادته ال41 علي الاتي : ” لمجلس الأمن أن يقرر ما يجب اتخاذه من التدابير التي لا تتطلب استخدام القوات المسلحة لتنفيذ قراراته، وله أن يطلب إلى أعضاء الأمم المتحدة تطبيق هذه التدابير، ويجوز أن يكون من بينها وقف الصلات الاقتصادية والمواصلات الحديدية والبحرية والجوية والبريدية والبرقية واللاسلكية وغيرها من وسائل المواصلات وقفا جزئياً أو كليا وقطع العلاقات الديبلوماسية. ” ومنها يتم الانتقال الي المادة 42 ونصها : ” إذا رأى مجلس الأمن أن التدابير المنصوص عليها في المادة 41 لا تفي بالغرض أو ثبت أنها لم تف به، جاز له أن يتخذ بطريق القوات الجوية والبحرية والبرية من الأعمال ما يلزم لحفظ السلم والأمن الدولي أو لإعادته إلى نصابه. ويجوز أن تتناول هذه الأعمال التظاهرات والحصر والعمليات الأخرى بطريق القوات الجوية أو البحرية أو البرية التابعة لأعضاء الأمم المتحدة “.

واكثر من ذلك فالسودان مرشح ليكون إحدي الدول التي قد يطبق عليها عرف دولي قيد التحول الي جزء من القانون الدولي إسمه ” مسئولية  الحماية ” يقوم علي الحد من السيادة المطلقة للدول علي شئونها الداخلية وهو المبدأ المشرعن دوليا حاليا في  الفقرة الثانية من الفصل السابع لميثاق الامم المتحدة. ولكن وفقا للعرف المذكور يحق للامم المتحدة التدخل في شئون أي دولة يقع الاجماع علي أن حكومتها عاجزة، قصدا أو بدون قصد، عن حماية شعبها من خطر استثنائي مثل الحرب الاهلية والمجاعة والابادة الجماعية. وتوجيه الاتهام الي وزير الدفاع أوائل ديسمبر بجريمة يغطيها هذا العرف من قبل المحكمة الجنائية الدولية، بعد الاتهام الموجه لرئيس الجمهورية، باب مفتوح مباشرة الي مجال هذا الأحتمال.



          تلك هي ملامح المنظور المفروض علي رؤية الاجيال الاصغر سنا لذكري الاستقلال بحكم الواقع القائم.  صحن الصيني المشهور الذي لاشق فيه ولاطق في مقولة الزعيم الازهري، اضحي كله شقوق وخدوش ان لم يكن قد تشظي وتكسر . المنتمون الي جيلنا الاكبر سنا  لديهم فرصة تأمل حدث الاستقلال من منظور أوسع قليلا لان ذاكرتهم مثل أعمارهم طويله، لاسيما وأن وسائل الاتصال  الحديثه( الفضائيات، الانترنت  الخ.. الخ..) تساعد في إنعاش الاحساس العارم بالتفاؤل والاعتزاز الوطني  والتطلع للمستقبل الذي عاشوه غداة سنوات مابعد الاستقلال. شخصيا لازلت قادرا علي استذكار حضوري في سن وعي متفتق ضمن الحشود الهائلة التي حفت بمسيرة القيادات السياسيه ونواب البرلمان بعد اعلان الاستقلال من داخله ( بدلا  من الاستفتاء ) الي حيث جرت مراسيم تسليم علمي دولتي الاحتلال ورفع العلم السوداني. هذا مشهد لايمكن ان يغيب عن ذاكرة الانسان مهما ضعفت ولكن من الصعب طبعا ايصال هذا الشعور والاحساس الي الاجيال الاصغر بسبب الحاجز من ركام الخيبات خلال العقود الاخيره التي لم يعرفوا غيرها.



هل  من الممكن التفكير بأمكانية إزالة هذا الركام؟ هذا من نوع المستحيل الممكن طالما كان الامر متعلقا بأرادة الانسان. بيد ان إرادة الانسان لاتنحصر في العزم والاستعداد لتحمل المخاطر والاعباء وانما أيضا تسيير هذه الاراده بوعي قائم علي ادراك مغزي دروس الماضي. ووجه الصعوبة الاستثنائية التي تخلط الممكن بالمستحيل هنا هي ان هذا بدوره غير ممكن إذا لم تخرج العقلية المعارضة من أسر طريقة التفكير التقليدي ، إذا لم  نتعود التفكير ” خارج الصندوق ” وفق التعبير السائد هذه الايام.



      عند التفكير بالمسئولية عن ركام الخيبات الذي يجعل عيد الاستقلال مأتما، تنصرف الاذهان مباشرة الي الحركة الاسلاميه. وبالفعل وبمقاييس موضوعيه، مسئولية هذه الحركه أكبر من غيرها .. وأكبر بكثير مما يُعتقد لان الامر لاينحصر في احتكارها سلطة الدولة لاكثر من عشرين عاما وأنما لان الفتره في الحقيقه تمتد عدة سنوات إضافيه بحكم مشاركتهم في سلطة مايو لمدة سبع سنوات ثم في سلطة الحكم خلال الفترة (الديموقراطية ) الثالثه. علي هذا  ليس هناك مقارنة بين الفرص التي اتيحت للحركة الاسلاميه واحزاب الحكم الاخري، خاصة حزب الامه، خلال مايسمي بالفترات الديموقراطيه. الواقع هو ان من الخطأ ، اصلا، القول بأن السودان مر بفترات ديموقراطية. فالقول السائر والصحيح بأن وضع السلم لايعني فقط غياب الحرب وانما استتبابه بتوفر شروط اضافيه، كذلك فأن القول بوضع ديموقراطي لايعني غياب الدكتاتوريه فقط وانما، علي الاقل، مرور فترة زمنيه تكفي لترسيخ وجود الديموقراطيه في الافهام والممارسات الشعبيه. وفق هذا التعريف الادق فأن السودان ظل تحت انظمة شموليه منذ عام 1958 ، تاريخ الانقلاب الاول، حتي الان دون انقطاع يذكر. هذا، بطبيعةالحال، لايعفي الاحزاب وقياداتها من المسئوليه ولكن علينا ان نحدد حجم هذه المسئوليه بموضوعية ونكف عن التعميم الذي يصل أحيانا الي مساواة أنظمة الانقلاب بأنظمة منتخبه.



 علي ان قصة او رواية او رؤية الانجاز والاخفاق لتاريخ مابعد الاستقلال السوداني، تاريخ ولادته وموته، أكثر تعقيداً بما يجعل حتي المسئولية الكبري للحركة الاسلامية جزء من الصوره الكليه وليست كلها.  لاينبغي لنا نحن اهل المعارضة الاستكانة الي مثل هذا التفسير الخادع لان هذه الحركه هي نتيجة اضحت سببا وطالما بقيت الظروف التي انتجتها قائمة فأن الجذور تظل موجوده بما ينتج غيرها من نوعها. الحركة الاسلامية لم تستول علي السلطه ( والثروه ايضا ) عن طريق التآمر أو حتي استغلال الدين في السياسه فقط وانما هي وليد شرعي للموت البطئ ثم المتسارع للقوي الاجتماعية –السياسية- الثقافية التي أنجزت هدف الاستقلال التاريخي. كما شرحتٌ في مناسبات سابقه ( كتاب ديموقراطية بلا إستنارة ) فأن حقبة الاحتلال البريطاني أطلقت عملية تحديث للبني الاقتصادية والاجتماعية والسياسيه خدمة لمشروعها الاستعماري ولكنها قادت في النهايه الي تصفيته.  مخرجات النظام التعليمي الحديث + القطاعات الاقتصاديه والاداريه العصريه، مشروع الجزيره والمرافق العامه  مثل السكه حديد الخ.. أنتجت الشرائح الحضريه وشبه- الحضريه ( القوي الحديثه ) التي كان تحقيقها لهدف الاستقلال الوطني واسطة العقد في حقبة نهضوية لايستهان بها بمقاييس النصف الاول من القرن الماضي، العشرينات وحتي الستينيات. في حقول الادب والسياسه والثقافه دخل السودان علي يد هذه الشرائح العصر الحديث وأضحي مجتمع المدينة السودانية بالذات مجالا يضج بالحيوية وقابلية التطور والانفتاح علي المستقبليات. مثلا، أرسي أحمد مرجان أولي لبنات التحديث الموسيقي في  السودان متلقياً دروسه الاولي في العزف وكتابة النوته وقراءتها من الجيش الانجليزي ليكتب بعد ذلك لحن النشيد الوطني ويفتح الطريق من الكاشف وحتي عقد الجلاد.. ومن منطقتنا الحلفاويه يأتي رجل بسيط ليلتحق بوظيفة بسيطة في مدرسه بالسجانه فيؤسس اسرة تخرج منها إحدي رائدات النشاط اليساري منذ الخمسينيات ومجموعة من رجالات الخدمة المدنية.



هذه الحيويه وقابلية التطور للامام ، اثمن انجازات تلك الشرائح، تبخرت منذ مايتجاوز العقود الثلاثه  حتي وصلنا، أو تدهورنا علي الاصح، للمرحلة التي يكون فيها التمرد علي التقليدي والسائد هو الرجوع الي الاكثر تقليدية، كما هو الحال مع الاف الشباب المتعلمين والاذكياء الذين يخرجون علي اسلام الاباء والاجداد الي إسلام محمد عبد الكريم وبن لادن السلفي .. ناظرين الي الخلف والماضي بدلا من المستقبل، عكس ما كان عليه الحال بالنسبة لابائهم وامهاتهم وجدودهم. مجتمع المدينة والشرائح التي صنعته، انقلب كيانه. هنا مربط الفرس كما يقولون. إذا لم تترافق جهود إزالة العقبة السلطوية الحاليه مع تصور لاصل المشكلة البعيد وجذورها وخطط وجهود مشتقة منها، فأن المستحيل سيبقي مستحيلا.



  بما أن الحديث هنا حول الا ستقلال فأن البذور الاولي لهذه الجذور يمكن استكشافها منذ تلك المرحل المبكره. رأس الحربه لقوي التجديد والتغيير الممثلة في تلك الشرائح كان مجموعةالمثقفين والمتعلمين . هؤلاء لم يكن بمقدورهم التهرب من مهمة الانخراط في العمل السياسي بأعتباره واجبا وطنيا. المعضلة جاءت من استحالة حدوث ذلك بطريقة منتجه تحفظ تلك الحيويه وتصون تلك القابليه، اي بطريقة تودي لتطوير النظام السياسي الديموقراطي الموروث من الاستعمارالراحل مع صيانة جوهره وهو الحريه. سببان كانا وراء هذه الاستحاله يتعلقان بطبيعة المجالين المتاحين وقتها لهذا الدور السياسي. المجال الاول هو العلاقه مع الاحزاب الطائفيه : هذه الاحزاب كانت ظاهرة إيجابية بالمقارنة لمرحلة التكوينات القبلية المتفرقة قبلها ولكنها لم تكن اداة صالحة للتنظيم الارقي درجة دون تغييرات داخلية اساسيه لم يكن من السهل استحداثها بالنظر لانخفاض مستوي  التحديث والاستنارة في المجتمع السوداني حينذاك رغم كل ماأنتجته القوي الحديثه. وبعكس التفسير السائد فأن اختيار مجموعات من المثقفين والمتعلمين الانتماء  الي هذا المجال لم يكن الانتهازيه او ضعف الهمه وانما انعدام ادوات تفعيل سياسي سلطوي لهذا السبب التاريخي نفسه.



هؤلاء كانوا عموما الاكبر سنا نسبيا والاقل عددا من جيل الاستقلال ومابعده بقليل، اما العدد الاكبر والاصغر سنا فقد انحاز الي الاختيار الاشتراكي. هذه ظاهرة يصعب علي الجيل الحاضر تصورها ولكن لتقريب الصوره يذكر ان سجل اوائل المتعلمين السودانيين ولاسيما الذين درسوا في مصر، يكاد يكون سجلا لعضوية الصيغة الاولية للحركة الشيوعيه ممثلة في حستو ( الحركة السودانية للتحرر الوطني ) كما هو الحال مثلا بالنسبة لشخصيات اتحاديه قياديه لاحقا مثل احمد زين العابدين و عبد الماجد ابو حسبو، وبما في ذلك قيادي اسلامي لاحقا مثل يس عمر الامام . حتي الستينيات المتأخرة استمرت هذه الموجة متصاعدة فكانت الراية الكبري لثورة اكتوبر 64 عندنا والسمة الرئيسية للتحولات الاجتماعية- الاقتصادية في مصر- ناصر وغانا-نكروما خلال تلك الفتره بل ان الحركة الاسلامية وجدت لها نسبا اشتراكيا فيما تمثل بكتاب الشيخ مصطفي السباعي زعيم الاخوان المسلمين في سوريا بعنوان ” الاشتراكية والاسلام ” الصادر عام 1959. في مصر غنت ام كلثوم قصيدة شهيرة لاحمد شوقي، شاعر السراي والارستقراطية المصريه، في ذكري المولد النبوي يقول احد مقاطعها  :
               الاشتراكيون انت إمامهم      لولا  دواعي القوم والغلواء



عالميا فلاسفة وكتاب مثل برنارد شو وبرتراند رسل البريطانيين وجان جينيه الفرنسي انبهروا بتجربة الاتحاد السوفيتي لفتره. وفي اول انتخابات بعد الحرب العالمية الثانيه في بريطانيا ( يونيو عام 1945 ) اطاح البرنامج الاشتراكي المنحي لحزب العمال الذي اسس نظام الضمان الاجتماعي والصحي بحزب المحافظين وزعيمه ونستون شيرشل بطل الحرب عندما أختار الناخبون حزب العمال بأغلبية ساحقه.  كذلك الحال في اقطار اخري مثل فرنسا والنرويج ونيوزيلندا وايطاليا حيث شكلت الاحزاب الاشتراكيه الحكومات او كانت ذات ثقل كبير فيها.   حتي في الولايات المتحده كان للحركة الاشتراكيه وجود محسوس وصل قمته في اوائل القرن العشرين الي درجة دخول مرشح اشتراكي انتخابات رئاسة الجمهوريه عام 1912 وحصوله علي 6% من اصوات الناخبين ولم تختف من الوجود المحسوس كلية الا منذ الخمسينات مع اشتداد الحرب البارده.



 في هذا السياق الاقليمي والدولي لم يكن ممكنا لأغلبية قوي التغيير الا ان تكون اشتراكية التوجه ولكنها ايضا كانت مكبلة بقيود معينه فيما يتعلق بالمحافظة علي النظام الديموقراطي كوسيلة وحيده لاعطاء الاستقلال نفسه مضمونا تنمويا ماديا ومعنويا، نظرا للمكون اللاديموقراطي الهام في الايدولوجيات الاشتراكيه كما اتضحت نتائجه  المأساوية في العالم الثالث واوروبا الشرقيه منذ الثمانينيات. صاحب هذا الحديث لايدافع هنا عن الجيل الاقدم بحكم انتمائه اليه سواء بحكم السن او تاريخه في  القسم اليساري منه ، ولكنني أود ان يقال عن هذا التحليل انه تقرير لواقع مفاده ان جيل مابعد الاستقلال لم يكن امامه طريق للممارسة السياسيه سوي هذين اللذان أديا لاضعاف الوعي الديموقراطي لدي النخب الاصغر سنا وهيأها لتكون مرتعا خصبا للاسلام السياسي الذي يتحكم فينا الان.  إن تاريخ أزمة التطور السوداني المستحكمة حتي الان هي في جوهرها تاريخ تآكل امكانية اعادة تأسيس وسودنة الارث الديموقراطي الموروث من الحقبة الاستعماريه لهذا السبب، وبسبب العلاقة بين الديموقراطية كعقليه وثقافه والاستناره، وهي الاطروحة التي سبق لي شرحها في الكتاب المشار اليه سابقا.



المهم انه علي هذا الطريق استولد التطور السياسي السوداني نظام العسكري – العسكري المحترف ممثلا في الجنرال عبود ورفاقه ( 6 سنوات ) ثم نظام العسكري – السياسي ممثلا في نميري ورفاقه ( 16 عاما ) ثم نظام العسكري –العقائدي ممثلا في تجربة حزب الاسلاميين السودانيين ( 89 – … ) . واصبحت قوي التغيير التي مهدت للاستقلال وصنعته كأنجاز تاريخي هي نفسها ممهدا  لظهور حقبة الشموليات العسكريه التي استولت علي سلطة مابعد الاستقلال وأوصلت البلاد الى ماهي فيه الان. كل حقبة من هذه الحقب  من عبود الى نميري الى البشير- الترابي كانت اكثر تأهيلا من سابقتها في مهمة خلق الشروط الموضوعية والذاتية المتناقضة مع النمو الديموقراطي . فقد كان اغلاق مجال الممارسة الديموقراطية لفترة تجاوزت اكثر من ثلاثة ارباع من عمر الاستقلال إغلاقا لافضل معاهد التدريب علي كيفية التعامل الناجح مع الالية الديموقراطيه حارماً الاحزاب من فرصة تطوير تركيبتها الفكرية والمؤسسية عن طريق التجربة والخطأ والمثول الدوري للقيادات في اختبارات المحاسبة والتقييم امام قواعدها وامام الناخبين ، وحارماً النخب بمجملها من التفاعل الحر مع التراث والتجربة البشريتين . ومع الركود التدريجي لقدرات الابداع لدي النخبة السودانيه في اجواء الظلام الدكتاتوري وتداعي مقومات الاستنارة في المنظومة التعليمية تحت ضغط محاولات القولبة السلطويه ، وتفشي اللامبالاه والفساد كتعبير مباشر عن ضعف الشعور بالمسئولية بسبب انعدام المشاركة السياسيه ، حل الوقت الذي عجزت فيه الدكتاتوريات عن تقديم الدليل علي صحة المعادلة التي سوقتها كتبرير لمشروعيتها وهي التلازم بين فقدان الحرية والتنمية الاقتصاديه. وخلال بضع سنوات إبّان الدكتاتورية الثانيه ( 69- 85 ) ظهر الوجه البشع لانهيار هذه المعادلة في اول مجاعة عرفها تاريخ السودان في القرن العشرين وبداية التراجع السريع للمستوي المعيشي في كافة انحاء البلاد الذي تفاقم مع انفجار الحرب الاهلية مجددا عام 1983 . وفي خضم موجة الحراك البشري من الارياف المتصحرة نحو المناطق الحضرية وشبه – الحضريه، وتضاؤل الطاقة التحضيرية لهذه المناطق، تحول زمام الريادة الاجتماعية والسياسية والفكرية الي عقليات تختفي وراء حداثتها الشكلية نزوعات تقليدية غالبة تتجلي اكثر مما تتجلي في تجاوبها مع تفسيرات تقليدية للدين بحكم الحاجة النفسية المتزايدة الي هذا النوع من التفسيرات لدي كافة قطاعات المجتمع وانخفاض مستوي الاستنارة سودانيا وعربيا . من هنا فأن نشوء اخر الدكتاتوريات واقدرها علي توفير شروط الموات الديموقراطي كان مهمة سهلة نسبيا امام حزب الاسلاميين، وكذلك استكمال مهمة تخريب الاقتصاد والوحدة الوطنية والنسيج الاجتماعي – الاخلاقي التي كانت سابقاتها من الانظمة الدكتاتورية قد قطعت شوطا مهما فيها.



     علي عتبة العام الخامس والستون للاستقلال يقف السودان اسير حلقة مفرغة يقود فيها انعدام الديموقراطية الي استمرار غيابها ، فهل من مخرج ؟ : لانعود هنا الي خليل حاوي، الشاعراللبناني المسيحي الذي لم يجد مهربا من الاحباط عشية دخول الجيش الاسرائيلي الي عاصمته بيروت سوي الانتحار، وابيات قصيدته الشهيرة في ديوان ” الصمت والرماد ” :
                “  ربي ماذا هل تعود المعجزات ؟
                  هل يولد من حبي لاطفال وحبي للحياة
                  فارس يمتشق السيف علي الغول
                 وطفل ناصري وحفاه ؟ “



نتعلم من تجربة ناصر المشخص ، وليس رمزالمسيح المخلص ، عبد الناصر قائد ( افضل ) الدكتاتوريات العربية، ان الطريق الاقرب هو الطرق الاطول ، طريق الديموقراطية التي يعاد بناؤها في عقليتنا وواقعنا لبنة لبنه. الشمول والعمق الاستثنائيين للخراب السوداني يمكن ان يصبحا حافزا لتركيز القناعات الديموقراطية لدي جيوب فاعلة من النخبة السودانية في كافة التيارات المؤطرة وغير المؤطرة حزبيا بمستوي من العمق والالتزام  يجعل منها تحالفا استراتيجيا ضمنيا يفرض ثقله تدريجيا علي الواقع السياسي ويخلق كتلة تغيير تصنع الاستقلال الثاني بتمهيد الارضيه لتأسيس الديموقراطيه كثقافه ونظام سياسي. ونقطة البداية الصحيحة هنا هي ادراك حقيقة أن تحرير عقل الانسان هو الشرط الاساسي لنجاح النظام الديموقراطي. هذا هو جوهر نجاح التجربة الديموقراطية الحديثة في مهدها الاوروبي. هذا ماشرعت فيه نخب مابعد الاستقلال ولكنها فشلت في استكماله فوقع الارتداد.  لايمكن بالطبع استنساخ التجربة الاوروبية سودانيا ولكن ابتداع جوهرها ممكن وهذا موضوع ماتسني لي تقديمه من قبل  لذلك لاأود الدخول فيه تفصيلا.